المحور الثاني: العقلانية العلمية
إشكال المحور
تختلف العقلانية العمية عن العقلانية الفلسفية، فإذا كان العقلانيون جعلوا من العقل المصدر الوحيد للمعرفة وأقصو التجربة، فما هي طبعية العلاقة بين العقل والتجربة مع العقلانية العلمية أو المعاصرة؟ هل هي علاقة اتصال أم انفصال؟
أهم المواقف
موقف "روبير بلانشي"
يؤكد "بلانشي" أن العقلانية العلمية ليست عقلانية دوغمائية ومنغلقة على ذاتها، وإنما هي عقلانية تجريبية منفتحة على هوامش خارجية، حيث أنه بالرغم من استنادها على العقل والفكر فإنها مجبرة على استشارة التجربة تفاديا للسقوط في التجريد والمثالية والتناقض، إضافة إلى ذلك فالعقلانية العلمية لا تتعامل مع العقل كإطار قبلي جاهز ومطلق وثابت بل كإطار يمكن أن يغير ويعدل باستمرا.
موقف "هانز رايشنباخ"
يقيم "رايشنباخ" تمييزا صارما بين العقلانيتين العلمية والفلسفية، فرغم جعلهما العقل مصدرا للمعرفة، فإنه لا يعني بالضرورة اتفاقهما حول معنى العقل ذاته، فالعقل الفلسفي عقل تجريدي تأملي بالدرجة الأولى، أما العقل العلمي فهو عقل رياضي يستخدم مناهج وآليات معقولة لبلوغ حقائق يقينية. ثم إن الانصراف إلى المعرفة العقلية والابتعاد عن التجربة من شأنه أن ينتج لنا معرفة لا علاقة لها بالواقع بل ينتج أبنية عقلانية مثالية أقرب ما تكون للنزعة الصوفية المجردة عن الواقع، يقول رايشنباخ "عندما يتخلى الفيلسوف عن الملاحظة التجريبية بوصفها مصدرا للحقيقة لا تعود بينه وبين النزعة الصوفية إلا خطوة قصيرة". واضح إذا الأهمية التي يوليها رايشنباخ اللتجربة على حساب العقل في بناء النظرية العلمية.
موقف "ألبير اينشتاين"
يرى اينشتاين أن التحولات الجذرية التي طالت العلم مع مطلع القرن العشرين أدت إلى ميلاد عقلانية جديدة. فالعلم المعاصر لم يعد يرتكز على التجربة بمعناها الكلاسيكي، لأن الظواهر الجديدة ذات الطابع الميكروسكوبي(التي لاترى بالعين المجردة) يصعب القبض عليها وإخضاعها لشروط التجربة المختبرية، وذلك لدرجة دقتها وتأثرها بوضعيات ملاحظة العالم لها وكذا سرعتها الشديدة. على هذا النحو يكون العلم مضطر لتعويض التجربة بأساس آخر يتجاوز قصور التجربة، يقول اينشتاين "إن المبدأ الخلاق في العلم لا يوجد في التجربة بل في العقل الرياضي".
موقف "غاستون باشلار"
إن المعرفة العلمية في نظر "باشلار" ليست نتاجا خالصا للتجربة وحدها ولا للعقل وحده، بل هي وليدة تكاملهما واندماجهما الدائم، وذلك لأن كل منهما لا يكفي ذاته بذاته، فالعقل وحده فراغ، والتجربة دون عقل عمياء، وبذلك يصير التناقض الذي صنعته الفلسفة الحديثة بين العقل والتجربة لا معنى له. لأن لا أحد منهما قادر على الاشتغال بمعزل عن الأخر، فبين العقل والتجربة حوار جدلي دائم، فعن طريق العقل نبني النظرية وبالتجربة نقوم بالتأكد من صدقها أو زيفها.
تركيب
يتبين مما سبق أن علاقة العقل بالتجربة لم تعد متوترة كما كانت مع الكلاسيكيين، فالعقل لم يعد هو المصدر الوحيد للمعرفة كما أن التجربة لم تعد تدعي الصلاحية المطلقة في إنتاج المعرفة، وإنما صار بينهما حوار جدلي يعترف فيه كل منهما بمكانة الآخر في إنتاج المعرفة العلمية، في إطار من التكامل المفضي لإنتاج حقائق يقينية وشاملة.