المحور الأول: الرأي والحقيقة
الرأي: مجموع المعارف المتداولة والمشتركة بين السواد الأعظم من الناس، والتي يسلم الجميع بصوابها، لأنها تتوافق مع الرغبة والإحساس المشترك، وصدفه متوقف على شيوعه وانتشاره، وليس كونه مبني على أسس وضوابط دقيقة.
إشكال المحور
إن الباحث عن الحقيقة مطالب بلانطلاق من درجة الصفر أي عدم التسليم بكل ما هو جاهز ومتداول، وبنفس الدرجة مطالب بإحصاء كل ما قيل حول الموضوع. إذن فما هي طبيعة العلاقة بين الرأي والحقيقة؟ هل هي علاقة تكامل أم تعارض؟ بمعنى هل بمكن الاعتماد على الآراء المشتركة لتأسيس الحقائق أم يجب القطع معها؟
أهم الأطروحات
أطروحة "الفرابي"
يرى "الفرابي" أنه بالرغم من أسبقية الرأي أو المعرفة المشتركة في الزمان على المعرفة البرهانية، فإن بلوغ الحقيقة يستوجب التخلص من كل المعارف المتداولة والشائعة، نظرا لأنها ترتكز على الجدل والخطاب والشعر، وهي كلها أسس تستمد قوتها من الانطباعات الحسية وليس من المعرفة البرهانية الدقيقة. إن هذا التصور يجد جذوره في التقسيم الأفلاطوني الأرسطي للمعرفة، فعندهم المعرفة البرهانية في قمة الهرم أما المعرفة الجدلية والخطابية والشعرية ... فتأتي بعدها، لأن البرهان في نظرهم هو الطريق الوحيد الذي يمكن المتعلم من الوصول إلى نتائج يقينية.
أطروحة "روني ديكارت"
مع "ديكارت" سترتفع حدة الفصل بين الرأي والحقيقة، فالشك في كل شيء عنده علامة على الحيطة المفرطة من الوقوع في آراء خاطئة، إنه شك غايته التخلص من كل ما ليس بيقيني، إنه شك منهجي. وذلك لأن الإنسان في مسار بحثه عن الحقيقة يصطدم بمجموعة من العوائق الذاتية والموضوعية، فمن جهة تشكل الأحاسيس والتخيلات عقبة في وجه الذات، ومن جهة ثانية يظهر أن التاريخ يراكم أخطاء لا حصر لها. كل ذلك يدفع الباحث للتعامل بحذر وصرامة، وطريقه في ذلك إنما هو الشك.
أطروحة "بليز باسكال"
يعتقد "بليز باسكال" أن العقل غير كاف لوحده لمعرفة الحقيقة، فهو في حاجة ماسة إلى القلب، ولذلك لأن المعارف والأفكار يتم إدراكها أولا بواسطة القلب ثم البرهنة والاستدلال عليها بعد ذلك بواسطة العقل، ثم إنه ليس بمستطاع العقل أن يقوم بشؤون القلب. يقول باسكال "نعرف الحقيقة لا بواسطة العقل فقط، ولكن أيضا بواسطة القلب، فبواسطة هذا الأخير نعرف المبادئ الأولى (...) ينبغي على العقل أن يستند لتأسيس خطابه بكامله على المعارف الصادرة من القلب والغريزة".
أطروحة "غاستون باشلار"
يؤكد "باشلار" على أن الرأي بما هو معرفة مشتركة وسائدة يعد عائقا في وجه المعرفة العلمية على وجه الخصوص، ولذلك يتعين تجاوزه وهدمه والتخلي عنه بشكل كامل، لأن الإبقاء عليه من شأنه أن يحول دون بلوغ معرفة يقينية وصادقة. ثم لأن جوهر الرأي قائم على العفوية والبراغماتية والتلقائية وذلك كله ضد الحقيقة. يقول "باشلار" "الرأي من الناحية النظرية دائما على خطأ، والرأي تفكير سيئ، بل إنه لا يفكر البتة، فهو يترجم الحاجات إلى معارف (...) لايمكن تأسيس أي شيء على الرأي بل ينبغي هدمه".
تركيب
واضح إذن أن الحقيقة ليست معطى جاهز يمكن العثور عليها فيما هو متداول ومشترك بين الناس، وإنما هي مبنية بناءا على ضوابط منظمة وصارمة، والسبب وراء ذلك هو أنه في كثير من الأحيان يسلم الناس بصدق آراء مشتركة مع العلم أنها خاطئة في عمقها، فالأمر إذن يتطلب فحصا دائما ومستمرا، على اعتبار أنها لا وجود لحقيقة خالصة غير مشتبكة مع أضدادها.