تحليل ومناقشة قولة – نموذج تطبيقي
القولة: " ليست البداهة العقلية هي المعيار المناسب للحقيقة "
حلل وناقش مضمون القولة.
الفهم
من خلال المفاهيم المتضمنة في القولة: البداهة العقلية، الحقيقة، معيار، يتضح أنها ضمن المجال الإشكالي لمجزوءة المعرفة، هذه الأخيرة التي تحيل على علاقة تفاعل دينامي بين ذات وموضوع، أي عملية تغتني فيها الذات من خلال بناءها للموضوع بطريقة منهجية. وتحديدا ضمن مفهوم الحقيقة، والتي تفيد في أحد معانيها مطابقة الفكر لموضوعه، إذ تسلط الضوء على قضية معايير الحقيقة. والقولة تتضمن مفارقة يمكن صياغتها على الشكل التالي: إن معيار الحقيقة قد يتمثل البداهة العقلية، كما يمكن أن يكون التجربة أو الحقيقة ذاتها، الشيء الذي يضعنا أمام مجموعة من اٌلإشكالات من قبيل: ما معيار الحقيقة؟ وهل البداهة بما تمثله من معاني الوضوح والتميز يمكن اعتبارها معيارا مناسبا للتمييز بين الحقيقي وغير الحقيقي أم نحتاج إلى معايير أخرى لبناء الحقيقة؟ وبأي معنى يمكن للبداهة أن تكون معيارا للحقيقة؟ هل فعلا الحقيقة تعلن عن ذاتها وبالتالي هي معيار ذاتها؟ وبأي معنى يمكن القول بأن التجربة هي معيار صدق الحقيقة؟ ثم هل هنا أصلا معيار واحد أم هناك معايير مختلفة؟ ثم إلى أي حد الاتفاق مع ما ذهب إليه صاحب القولة.
التحليل
من خلال قراءة القولة يتضح أن صاحبها يدافع عن أطروحة أساسية مضمونها نفي إمكانية الاطمئنان أو الاعتماد على البداهة العقلية كمعيار للحقيقة، بصيغة أخرى أن معيار الحقيقة لا يكمن في البداهة العقلية، هذا المعيار الذي اعتمده العقلانيون كديكارت في فرز الحقيقة عن غيرها، إن هذا الكلام فيه تلميح واضح إلى أن التجربة العلمية هي التي تستحق أن تكون معيارا للحقيقة، من منطلق أن العقل ومبادئه المنطقية لا معنى لها وإنما هي مجرد تابعة للتجربة، فالفكرة الحقيقية لا تكون كذلك إلا إذا جاء حكمها مطابقا للواقع التجريبي مطابقة تامة، فعندما أقول مثلا "إن الماء يتبخر بالحرارة" يكون حكمي صادقا، إذا أكده الواقع وليس بالنظر إلى بعض الاعتبارات المنطقية، إذن الواقع هو الذي يؤكد أو ينفي، وذلك بالاعتماد على الملاحظة الحسية والتجريبية. إضافة إلى ذلك فالعقل أصلا عبارة عن صفحة بيضاء ليس فيه شيء قبل التجربة، بل إن جميع ما يخط فيه مصدره التجربة والتي تنحت في عقلنا المبادئ والأفكار البسيطة منها والمركبة، فإذا كان هناك من بداهة فهي بداهة الحواس وليست بداهة العقل، فلكي أحكم على طعام أنه حلو أو مر ويكون حكمي صادقا فلابد أن أستعمل حاسة الذوق، ويمكن القياس على ذلك بخصوص جميع الحواس، إذن الحقيقة مقرونة بالتجربة وليس بالعقل وبداهته.
ولبناء أطروحته استثمر صاحب القولة جملة من المفاهيم أهمها، مفهوم الحقيقة ويفيد على المستوى الفلسفي دلالات متعددة منه أنها مطابقة الفكر لموضوعه، أما على المستوى اللغوي فتعني الصواب أو الصدق في مقابل الخطأ أو الكذب. كما نجد مفهوم البداهة والتي تشير حسب سياق القولة إلى الحقيقة التي تفرض على الفكر بشكل مباشر دون أن تكون هناك ضرورة للبرهنة عليه. أما المعيار فهو كل ما يقاس به غيره وهو المرجع الذي تميز به وتصنف به الأشياء والمفاهيم و به يحكم على قضية أنها صحيحة أو خاطئة.
المناقشة
إن قيمة الموقف المعبر عنه في القولة قد شكل منطلقا للثورة العلمية والصناعية خلال القرن السابع عشر، من خلال إعطاء أهمية بالغة للتجربة العلمية، وجعلت التجربة بذلك مزاحمة للعقل في إنتاج المعرفة، بل إنها لقيت قبولا كبيرا في الأوساط العلمية لما لها من منفعة مباشرة وملموسة. فقد مكنت التجربة العلمية من تطوير كثير من المخترعات والإنتاجات وبلوغ حقائق يقينية في كثير من الموضوعات الطبيعية، بل مكنت الإنسان من حلم ظل يراوده وهي السيطرة على الطبيعة. لكن ذلك لا يعني أن الموقف العقلاني الذي يعطي أهمية كبرى للبداهة العقلية موقف ضعيف، بل إنه موقف لا يمكن تجاوزه في أي بحث وفي أي مجال، فالاشتغال العقلي عنصر مركزي مهما كانت مكانة التجربة، ولتبيان ذلك سننفتح على مواقف وآراء أخرى.
إن الموقف المعبر عنه في القولة لا يبتعد كثيرا عن ما عبر عنه التجريبيين ك "دافيد هيوم" و"جون لوك" مثلا الذين يرون أن التجربة معيار رئيسي في إثبات الحقيقة فكل حقيقة تكون كذلك إذا كانت تجريبية أما غير ذلك فيلزم إعادة النظر فيها واختباره تجريبيا، ثم ما دام كل المعارف إنما مصدرها التجربة الحسية فبالتالي لا معنى لتدخل طرف ثاني للحكم عن الحقيقة غير التجربة، أما القول بأن العقل يتمكن من ذلك فهو قول خاطئ لأن العقل ذاته مجرد صفحة بيضاء ما يخط فيه إنما مصدره التجربة، فلا وجود لمبادئ فطرية في العقل تمكننا من كشف الحقيقة عن غيها. فكل العمل يتم عبر التجربة.
لكن وإذا كان الموقف المعبر عنه في القولة وقول التجريبيين يتجاوز البداهة العقلية ويرى بأنها لا تستحق أن تكون معيارا للحقيقة فإن "ديكارت" له تصور آخر، ففي حديثه عن مفهوم البداهة وعلاقتها بمعيار الحقيقة قد اعتماد على منهج عقلي سماه الشك المنهجي والذي اعتبره مجرد عتبة انطلاق للوصول إلى الحقيقة، فهو شك مؤقت يمكننا من امتحان معارفنا وقوانا العارفة، فهو يرى أنه إذا أردنا أن نقرر شيئا فلابد أنطرح كل ما داخل عقلنا من معارف وآراء ونشك فيها للتأكد من صحتها وصلابتها. وهكذا ذهب الشك بديكارت إلى وضع العالم الخارجي والحقائق الرياضية والمعارف الفلسفية التي تلقاها سابقا موضع تساؤل، لكنه وهو يمارس عملية الشك، انتبه إلى أن الشك هو في حقيقته تفكير. يقول بهذا الصدد: "أنا أفكر، إذن أنا موجود" فتفكيري هو دليل وجودي، وهذه حقيقة بديهية واضحة لا لبس فيها ولا غموض. لذلك يرى ديكارت انه يجب أن نشتغل بالمعاني الواضحة المتميزة، وأن نرتب أفكارنا في نسق خاص حيث يكون كل معنى منها مسبوقا بجميع المعاني التي يستند إليها، وليكن شعارنا دائما: البداهة والوضوح.
إن موقف ديكارت لقي اهتمام من مجموعة من الفلاسفة خاصة العقلانيين منهم ك"باروخ اسبنوزا" الذي أكد على أهمية البداهة العقلية في تأسيس الحقيقة، وفي هذا الصدد يقول: "إن للحقيقة علامتها الخاصة وهي بهذا لا تحتاج للوصول إليها وامتلاكها المرور عبر عملية الشك، فالذي ملك فكرة حقيقية يعرف حق المعرفة أنه يمتلك هذه المعرفة ولا يشك فيها، إذ إن أية قاعدة للحقيقة هي من الوضوح واليقين كالفكرة الحقيقية ذاتها، وبالمثل، وكما إن النور ظهر بذاته، وظهرت معه حقيقة الظلام، فكذلك الحقيقة إنما هي معيار ذاتها ومعيار الخطأ".
التركيب
يتبن مما سبق أن إشكالية معايير الحقيقة إشكالية مركبة أفرزت مواقف وآراء مختلفة وأحيانا متعارضة. فإذا كان صاحب القولة ومؤيديه يرون أن البداهة العقلية لا تستحق أن تكون معيارا للحقيقة، فإن آخرين من قبيل ديكارت واسبينوزا قد جعلوا من البداهة جزء بل أصل للفرز بين الحقيق وغير الحقيقي.
غير أن هذا التضارب في المواقف حول معيار بناء الحقيقة، يجعل مفهوم الحقيقة في حد ذاته موضع تساؤل، فإذا كنا لا نتفق على معيار أو معايير الحقيقة، فان السؤال حول وجود الحقيقة يصبح مشروعا، ويجعلنا نعتبر ما يحسبه الناس حقيقة ليس إلا مجموعة من الأوهام استأنس بها الناس وسرعان ما ينكشف زيفها.