نص للتحليل والمناقشة
- الدولة -
النص:
<< والسياسة إنما هي -من بين العلوم التطبيقية- العلم الذي يبتعد فيه النظر عن التطبيق أكثر من غيره، ولا أحد أقل أهلية من المنظرين أو الفلاسفة لتدبير شؤون الدولة... الدولة التي تبقى سلامتها متوقفة على استقامة عدد من الأفراد، والتي يقتضي تدبير شؤونها على أحسن وجه أن يتصرف المعنيون بالأمر بوفاء وإخلاص، إنما هي دولة واهية لا قرار لها. فحتى تضمن الدولة لنفسها البقاء لابد من تنظيم الأمور تنظيما يتعذر معه على أصحاب القرار، سواء احتكموا للعقل أو انقادوا للأهواء، أن يحمل على التصرف بمكر أو ضد المصلحة العامة. ولا يهم أمن الدولة وسلامتها، معرفة الدوافع الحقيقية التي حثت المتصرفين فيها على حسن التدبير طالما أنه تدبير حسن: ذلك لأن حرية الضمير أو رباطة الجأش من فضائل الإنسان الخاصة، أما الأمن فمن فضائل الدولة >>
حلل النص وناقشه (الثانية باك علوم إنسانية الدورة الاستدراكية 2009)
الفهم
ما من شك أن الإنسان هو كائن يعيش في جماعة، وهو أمر نلاحظه عند بعض الحيوانات، لكن اجتماع الإنسان يتميز عن غيره من أنماط وأنواع الاجتماعات الأخرى بأنه يحتاج إلى أن ينظم في إطار دولة. يمكن القول إذن أن الدولة كتنظيم هي ظاهرة سياسية خاصة بالإنسان فقط. النص الذي بين أيدينا يمكن تأطيره ضمن مجزوءة السياسة، الذي تحيل على فن تدبير شؤون الناس في كافة المجالات، ويعالج بالضبط مسألة مركزية تتمثل في وظيفة الدولة والأسس التي تضمن لها البقاء والإستمرار، والتي تعتبر من القضيا المركزية في مفهوم الدولة، هذه الإخيرة التي تدل على مجموعة من المؤسسات تعمل على تدبير معيش الناس. ويمكن أن نحدد الإشكالية المركزية التي يناقشها في السؤال التالي، ما هي الوظيفة التي تؤديها الدولة والذي يضمن بقاءها واستمرارها ولا يجعل وجودها مرهونا بنوايا الأشخاص؟ ويمكن صياغة هذه الإشكالية المركزية في سلسلة الأسئلة التالية، ما هو التعريف الذي يمكن أن نعطيه لمفهوم السياسة؟ ماهي شروط سلامة الدولة التي تضمن لها البقاء؟ هل يتوقف ذلك على سلوك الأفراد اللذين يسيرون الشأن العام فيها، اللذين يفترض فيهم الإستقامة والإخلاص والوفاء؟ أم أن وجودها واستمرار بقائها يرتبط بشروط أخرى؟ كيف ينبغي أن تنظم الأمور في الدولة؟ وما الذي يحمي المصلحة العامة أم تبقى مرهونة بمزاج أهل القرار؟ ما هي الآليات التي من خلالها يمكن أن تضع حدا لسيطرة الأهواء على أصحاب القرار؟ ماهي الوظائف المركزية التي ينبغي أن تؤديها الدولة؟ وما الفرق بين دولة المؤسسات ودولة الأشخاص؟.
ظاهر أن النص أعلاه يؤكد على تصور معين لوظيفة الدولة ولآليات بقائها واستمرارها، فإلى أي حد يمكن أن نتفق مع صاحب النص حول ما يدعيه بشأن الممارسة السياسية؟ هل فعلا يمكن أن نخضع السياسة كعلم تطبيقي لآليات وقواعد حكم معقلن تقنن ممارستنا؟ أليست قوة الأهواء والطبيعة العدوانية للإنسان أقوى من أي تقنين يمكن أن يقدمه العقل؟، ألا يثبت لنا تاريخ الجمهوريات والمملكات "أن الغاية تبرر الوسيلة" في الممارسة السياسية، وأن الأصل في الدولة أنها نتاج لصراع الطبقات؟ ألا ينم موقف صاحب النص عن رؤية مثالية وحالمة للطبيعة الإنسانية؟.
التحليل:
ينطلق صاحب النص من تأكيد أطروحة أساسية مفادها أنه، لا يمكن للدولة أن تضمن لنفسها البقاء و الإستمرار إذا جعلت وجودها بأهواء من يصهرون على تدبير شأنها لأن شروط ضمان استمرار الدولة يرتبط بإحكام الآليات التي تضمن أداءها لوظائفها بشكل مؤسساتي. فهو يؤكد على أن، السياسة كعلم مستفاد من الممارسة التطبيقية هي مجال بعيد عن التنظير، مما ينعكس أمره على تدبير شؤونها، حيث يبدو أن، الفلاسفة بوصفهم منظرين هم أقل الناس أهلية لتدبير الشأن العام، كما أنه يرى أن الذي يضع وجود الدولة في خطر هو أن تبقى مرهونة بوفاء الأشخاص اللذين يسهرون على تسيير شأنها العام وعلى إخلاصهم لرأس هرم السلطة. لذلك يمكن القول مع صاحب النص أن الذي يحفظ سلامة الدولة ويضمن لها البقاء هو ألا تبقى رهينة لميولات وأن أصحاب القرار. إذ ينبغي وضع آليات تمنع أصحاب القرار من التصرف بمكر ضد المصلحة العامة، بحيث نصبح أمام دولة مؤسسات تسيرها كفاءات وليس أمام دولة أشخاص وعلاقات. وفي النهاية يؤكد على أن الوظيفة الأساسية للدولة تقوم على حفظ الحرية الخاصة للمواطنين وتوفير الأمن في المجال العام، وهذا لا يتأتى إلى عبر تصرف معقلن وتدبير حسن لمرافقها.
وقد اعتمد صاحب النص، في بناء أطروحته على مجموعة من المفاهيم أهمها السياسة، المصلحة العامة، الحرية، الأمن، تدبير الشأن العام، التميز بين الخصوصي الفردي والعمومي الجماعي، وظاهر أن هذه المفاهيم تنتمي إلى المعجم الخاص بنظرية التعاقد التي قال بها مجموعة من الفلاسفة مثل "هوبز" "روسو" "جون لوك" "سبينوزا". و يظهر أن صاحب النص قد انتهى إلى هذه الأحكام التي أكدها في أطروحاته من خلال رؤية تأملية لواقع الممارسة السياسية. ويرى أن الفلاسفة هم أقل أهلية لتدبير شؤون الدولة، وليس في النص أدلة أو حجج يمكن اعتبارها وسائل لإثبات صحة الأطروحة ولكنه يتميز في المقابل برؤية تفسيرية (برادغم) لوظيفة الدولة، ويعبر عن وجهة نظر خاصة حول المجتمع.
المناقشة:
بعد أن خلصنا إلى أن النص يقدم رؤية متميزة لما ينبغي أن تكون عليه الدولة حتى يستقر أمرها، ويرى أن شرطها يكمن في أن تكون دولة مؤسسات وأن تكون وظيفتها هي الحفاظ على الأمن والحرية الخاصة للمواطنين، وهي المطروحة كما هو ظاهر، تتوافق مع ما يدعيه "سبينوزا" الذي يرى أن الدولة قد وجدت لغاية تحرير الإنسان وليس إرهابه أو السيطرة عليه وأنها إطار يحمي جميع اللذين دخلوا في التعاقد الإجتماعي، ويضمن لهم أداء أدوارهم في جو من السلم والأمن، ويضع حدا للأنانية المدمرة للمصلحة العامة واستبدالها بحكمة العقل، وبعد كل ما قلناه في التحليل ننعطف الآن لمناقشة أطروحة النص وفحص مسلماتها الأساسية ونوعية رؤيتها للطبيعة الإنسانية وللمجتمع البشري الذي يسمى دولة. وسنعمل من أجل ذلك إلى توظيف كل من موقفا "ماكيافيلي" و "انكلز".
يرى ماكيافيلي أن الإنسان من حيث طبيعته الأصلية هو كائن شرير ومتقلب ومنافق وطماع، وأنه ذئب لأخيه الإنسان. ولا يمكن للدولة أن يستقر أمرها إذا لم يكن لأميرها القدرة على أن يكون ثعلبا وأسدا في نفس الوقت، أي أن يستعمل المكر و الخديعة من جهة، والشجاعة والقوة من جهة ثانية، من هنا كان العنف ضروريا في الممارسة السياسية وركيزة لإحكام السلطة وإلا فأمر الدولة سيؤول دون شك إلى زوال. إن العنف والخديعة والحيلة ضرورية للدولة، والتاريخ يثبت أن نشأة الإمبراطوريات وسقوطها مرتبط بالتحكم في آليات العنف، ذلك أن الحياة الإنسانية قائمة على الغلبة والخضوع. فأي مؤسسة بإمكانها أن تهزم هذه الطبيعة المتجذرة في الإجتماع البشري، سياسة الدولة إذن كما يرى"ماكيافيلي" تتحدد بالقوة والعنف أكثر مما تتحدد بالحق والعقل، وهي تحتاج إلى الحيوانية والوحشية مثلما تحتاج إلى الحكمة والتعقل عند الإقتضاء فالغاية تبرر الوسيلة. ظاهر أن هذا الموقف يتعارض كليا مع ما يدعيه صاحب النص. لنعرج الآن على موقف معارض لأطروحة النص والمتمثل في آراء "إنكلز". يرى هذا الأخير أن الأصل في قيام الدولة ليس ارتباطها بالأشخاص، أو العكس من ذلك على المؤسسات، بل على الصراع الطبقي فالدولة لم تكن موجودة في المجتمعات الأولى، وقد أدى النمو الإقتصادي في مرحلة معينة من تطور المجتمع إلى انقسامه إلى طبقات ومعه أصبحت الدولة ضرورية، إذ وجد الناس أنفسهم بفعل تصارع الطبقات الإجتماعية ذات المصالح المتعارضة في حاجة إلى سلطة عليا تخفف من حدة الصراع، وتضمن حدا أدنى من النظام، إذن وجود الدولة هو أداء وظيفة الحد من الصراع، لكن سرعان ما تحولت الدولة إلى أداة لتجسيد إرادة الطبقة العليا المهيمنة اقتصاديا، ورغبة منها في تمويه هذا الصراع الطبقي لجأت البرجوازية إلى وسائل أكثر"نظافة" وذل بتشريع قوانين وضعية من أجل مزيد من السيطرة على وسائل الإنتاج وبالتالي الاستفراد بالثروات واضطهاد الطبقات المسحوقة. وعليه فلا علاقة للدولة بالمؤسسات أو بالعقل والنظام بل إن المؤسسات هي أقوى وسيلة للتمويه، فالدولة مرتبطة بمصالح أفراد وفئات قليلة وبحكم تناقض المصالح الإقتصادية لا يمكن لها إلى أن ترتبط بهذا الصراع الطبقي. فإن التعاقد الإجتماعي الذي يدعيه صاحب النص.
تركيب:
يظهر إذن أن موقف صاحب النص مؤسس على مسلمات خاصة عن الطبيعة الإنسانية وبالتالي لا يمكن أن نقبل بأطروحة صاحب النص إلا إذا سلمنا بمنطلقاتها. ومن ينظر إلى المجتمع على أنه نتاج صراع الطبقات أو يعتبر الطبيعة البشرية عدوانية في تكوينها الغريزي لا يمكن أن يتفق مع صاحب النص الذي يؤمن بإمكانية قيام التعاقد الإجتماعي والتوافق بين الناس، لقد تطورت الأطروحة في عصر الحداثة وتحولت من التصور التعاقدي للدولة إلى رؤية أكثر مبدئية للسلطة تقوم على المناداة بدولة الحق والقانون والفصل بين السلط ودعم الحيات الفردية، ويبقى محل النزاع بين التصورين المتعارضين اللذين تطرقنا إليهما أعلاه في ماذا نجاح المجتمعات المعاصرة في تنزيل هذه المبادرة السياسية على أرض الواقع.
ملاحظة: ليس هناك نموذج مثالي، أو جاهز، يعتبر وصفة سحرية للكتابة الإنشائية الفلسفية. إنما هناك نماذج مختلفة نستأنس بها ونستفيد منها لننتج موضوعنا الإبداعي الخاص، شريطة الإلتزام بمنهجية الكتابة الإنشائية الفلسفية.