المحور الأول: المعرفة التاريخية
إشكال المحور
انطلاق من كون الإنسان يريد معرفة ماض لم يعاصره يكون السؤال عن تكوين تلك المعرفة مشروع والذي يمكن صياغته كالتالي: هل المعرفة التاريخية ممكنة أم مستحيلة؟ وما طبيعتها ؟ هل هي ذاتية أم موضوعية، سردية أم تكوينية، نسبية أم مطلقة، ثابتة أم متغيرة؟
معالجة الإشكال
أهم الأطروحات
أطروحة "عبد الرحمان ابن خلدون"
إن التاريخ عند بان خلدون ليس عملا بسيطا لأنه إلى جانب معرفة الأحداث يجب على المؤرخ معرفة معارف أخرى لتكوين معرفة دقيقة، فالتاريخ ليس مجرد سرد وحكي لأمم والأقوام السابقة بل هو علم دقيق يعتمد في بنائه على معرف وعلوم كثيرة تتضافر جميعها لبلوغ الحق، ثم الجمع والنقل فقط من شأنهما أن يكون معرفة غير صحيحة ومليئة بالعيوب والأخطاء.
أطروحة "هنري إريني مارو"
يؤكد الفيلسوف على أن التاريخ عمل بنائي وليس مجرد سرد ونقل لتجارب الماضي، فالمؤرخ يقوم من خلاله بتشكيل المعرفة في ذهنه قبل مباشرة كتابته وذلك لتجنب الوقوع في الأخطاء والمعرف غير الدقيقة، وبذلك يكون التاريخ عملا يقوم على ضوابط علمية ويتعارض مع كل معرفة غير منهجية أو عقلانية. إن هذا الطرح من شأنه أن يرفع النظرة الأدبية على التاريخ نحو جعله بناء تكويني واع ومعقلن لماض ما باعتماد أسس وضوابط تنهل من العلوم الحقة، وبذلك يصبح التاريخ مناقضا للأسطورة والحكاية والمعرفة العامية.
أطروحة "بول ريكور"
المعرفة التاريخية عند "ريكور" عمل مؤسس وتكويني وليس سردا وحكيا، فالأحداث والوقائع التي تشكل تاريخا تم إخضاعها للمساءلة والنقد، فقد كانت عبارة عن مادة خام تحتاج إلى عمليات منظمة كي يصير لها معنى وقوة، فالباحث يعمل على المساءلة والملاحظة ثم الفرضيات ليشرع في عملية الاستنطاق والنقد ليتوصل في الأخير إلى تكوين معرفة تاريخية دقيقة. لإن هذا الطرح شكل مرحلة جديدة في التعامل مع الأحداث والمضامين الماضية، حيث حل العمل المنهجي محل التسليم.
أطروحة "ريمون أرون"
انطلاقا من كون التاريخ يتشكل من الوثائق والآثار الدالة عليه، فذلك يعني أن المؤرخ لا ينصب عمله إلا على تلك الزوايا التي مازال يحتفظ بما يدل عليها، فالمؤرخ يستطيع تكوين معرفة عن الماضي عن طريق فحص وتحليل الوثائق التي لازالت تشهد على مرحلة زمنية ما، وذلك ما يطرح مجموعة من الصعوبات فأحيانا يواجه المؤرخ بقلة الوثائق وأحيانا أخرى غرابة وصعوبة فهم أحداث مضت مقابل فهم تلقائي للحاضر كل ذلك يجعل تكوين المعرفة التاريخية أمر صعب. غير أن عمل المؤرخ مع ذلك ليس لغرض الترف وتضييع الوقت، وإنما لأجل الوقوف على حجم التطور المجود بين ماضي وحاضر الإنسان ثم للوقوف على الجوانب المشتركة والمختلفة.
تركيب
واضح إذن أن المعرفة التاريخية تبنى ولا تعطى، وبذلك فهي تكوينية وليست سردية، كما أن العمل المنهجي يمنع كل تدخل للذات مما يجعلها موضوعية. فالمعرفة التاريخية لا تتشكل كما يمكن أن يتصور من مخيلة الؤرخ ومزاجه وإنما انطلاقا من عمل منهجي، يقوم على مساءلة واستنطاق الوثائق وتحليها وفحصها للوصول إلى معرفة دقيقة ويقينية، رغم أن هذا الهدف قد يواجه أحيانا بحاجزالبعد الزمني وقلة الوثائق.