المحور الثاني: معايير الحقيقة
إشكال المحور
كثيرا ما تختلط علينا المعرف فلا ندري أي منهما حقيقة وأي منهما غير ذلك الشيء الذي يدفعنا للبحث عن معيار نستد إليه في الحكم. فما هو معيار صدق الحقيقة؟ هل هو مطابقتها للواقع أم للعق أم لذاتها؟ وهل تتأثر الحقيقة بتغير المعيار أم أنها تظل ثابتة؟
معالجة الإشكال
أهم المواقف
موقف "باروخ سبينوزا"
يؤكد "سبينوزا" على أن الإنسان يمتلك من المؤهلات ما بها يميز بين الحقيقي وغير الحقيقي، وذلك من خلال البحث عما يجعلها واضحة ومتطابقة مع موضوعها، فمعيار الحقيقة لا يوجد خارجها بل هو كامن فيها، حيث يستطيع العقل التمييز بين الحقيقة وغيرها بالاعتماد على تماسك شكل المعرفة مع محتواها أو عدم تماسكها، فالحكم على المعرفة بالصحة والخطأ متوقف على وضوحها أما العقل، وكل تناقض أو تعارض مع الموضوعات التي تمثلها يجعلها مزيفة وغير حقيقة.
موقف "روني ديكارت"
يرى "ديكارت" أن اصطدام العقل بمعارف مختلفة ومتميزة جعل الوصول إلى الحقيقة يتطلب الاعتماد على طريقتين:
- الحدس: ويعتمد في المعارف البسيطة والمباشرة والتي يقوم صدقها على وضوحها وتميزها أمام الذهن.
- الاستنباط: يعتمد في معرفة الأشياء المركبة والاستدلالية التي يتم فيها تطبيق ثلاث خطوات وهي التحليل والتركيب والمراجعة، وصدقها يتوقف على انسجام مراحلها.
موقف "دافيد هيوم"
حسب هيوم لايمكن الحديث عن معيار واحد للحقيقة، فتعامل العقل مع معارف متعددة ومختلفة يدعوه إلى ضرورة البحث عن معايير صدقها بالنظر إلى طبيعتها وشكلها، ففيما يتعلق بالمعارف العقلية يظهر أن معيار صدقها يكمن في تطابق الفكر مع ذاته، والتصور الذهني الموجود عنها، أما المعارف التجريبية فيتوقف صدقها على العالم الخارجي، فإذا تطابقت معه صارت حقيقية وإذا حصل العكس فهي غير حقيقية.
موقف "إمنويل كانط"
يتساءل كانط منذ البداية عما إذا كان ممكنا وضع معيار كوني للحقيقة، لأنه ما دام المراد هو امتلاك آليات لفرز الحقيقي عن ما هو زائف، فإنه من اللازم التفكير في معيار شامل للجميع، غير أن هذا المسعى غير ممكن، لأن هناك نمطين من الحقائق وهما الحقيقة المادية والحقيقة الصورية. يقول كانط "من غير الممكن أن يوجد معيار مادي وكوني للحقيقة، لأن هذا المعيار متناقض مع ذاته (...) وبالمقابل، إذا كان الأمر يتعلق بمعيار صوري وكوني، فمن اليسير أن نقر بجواز ذلك لأن الحقيقة الصورية تكمن في مطابقة المعرفة لذاتها". فالأولى لاتحتمل الخضوع لأي معيار كيفما كان، أما الثانية فيقبل ذلك وهي المعايير الكونية والمنطقية.
تركيب
من خلال ما سبق نستنتج أنه ليس هناك معيار واحد للحقيقة، ولذلك لأن هناك مصادر مختلفة للحقيقة، إضافة إلى اختلاف وتباين الحقائق. فهناك من يعتقد أنه لامعيار سوى المعيار الذاتي(سبينوزا) وهناك من يعتقد بالحدس والاستنباط(ديكارت)، وهناك من يرى بإمكانية توحيد المعيار إذا تعلق الأمر بالمجال الواحد، تجريبيا أو عقليا أو ماديا أو صوريا ... لكن أي قيمة ستبقى للحقيقة في ظل غياب معيار واحد؟