المحور
الأول: وجود الغير
طرح
إشكالي:
هل
وجود الغير ضروري لوجود الذات أم أنها في غنى عنه؟ بمعنى آخر هل الذات في حاجة
للغير لتدرك وجودها وماهيتها أم أن الغير يشكل عامل تهديد ونفي لها وبالتالي فهي
في غنى عنه؟
معالجة
الإشكال:
تحليل موقف
"روني ديكارت"
ينتقد "دیکارت"
كل الآراء التي ترى أن الذات في حاجة إلى الغير من أحا إدراك وفهم وجودها؛ فهي
بالنسبة له قادرة على تحقيق ذلك بمعزل عن أية واسطة خارجية، سواء كانت عاقلة أم
مادية؛ ويرجع ذلك إلى أنها تملك ما يكفيها لذلك وهو التفكير؛ فمادام أن الذات
تفکر، فهذا دليل قاطع على أن وجودها أمر يقين ولا يشوبه أدنى شك؛ ولعل ذلك ما تصرح
به قولة ديكارت الشهيرة «أنا أفكر، إذن أنا موجود». إضافة إلى ذلك فالتفكير صفة من
صفات النفس، تولد معها وتبقى لصيقة بها إلى أن تفنى فهو جوهرها ومايتها؛ إذ لو لم
تكن كذلك لما كان بامكاننا أن نقيم تمييزا بينها وبين الجسد الذي يتميز بالامتداد
؛ يضاف إلى ذلك أن فسح المجال لقوة خارجية من شأنه أن يضع التفكير موضع شك، كما
أنه فرصة للتشكيك في قدرات الذات ومؤهلاتها الخاصة. وعلى هذا الأساس، يتأكد أن
الذات في غنى كامل عن الغير، لأن وضوح وجودها ويقينه قد تحقق بفضل مقوم ذاتي وليس
خارجی.
مناقشة:
موقف "هيجل":
إن فلسفة
"هيجل" هي التي جعلت الغير يحتل موقعا مركزيا في مسألة الوعي بالذات،
التي تعرف سيرورة تبدأ أولا من الاتصال المباشر بموضوعات العالم الخارجي إلى مستوى
الاعتراف به من طرف ذات أخرى، وإن كان هذا الاعتراف يتم عبر صراع يخاطر فيه
الطرفان : الأنا والغير (السيد والعبد) بحياتهما حتى الموت. لكن هذا الصراع سوف لن
يستمر إلى ما لانهاية، بل سيتوقف باستسلام أحد الطرفين للأخر تفضيلا للحياة عن
الموت، وبذلك يصبح المستسلم هو العبد لصالح السيد، إذاك تنشأ العلاقة الإنسانية
الأولى بين الأنا والغير. لذلك يمكن القول أن وجود الغير ضرورة لوجود الأنا ووعيه
بذاته. وعليه، فلا يقتصر الوعي بالذات عند هيجل على معرفة الأنا لذاته، بل هو
التعرف على ذاته في موضوع غريب عنها. فكل ذات ترغب أن يعترف بوجودها من طرف ذات
أخرى أو أنا آخر يواجهها، مادامت الذات لا يتم الاعتراف بها إلا من خلال فكرة
"الصراع"، وهذا ما تعكسه علاقة السيد بالعبد.
وفي
نفس السياق يمكننا استحضار موقف "مرلوبونتي":
يعتبر "ميرلوبونتي"
وجود الغير هو وجود مستقل ووعي لذاته، وليس عبارة عن موضوع أو شيء من أشياء العالم
الخارجي. لأن تجربة الذات عبارة عن مواجهة مع وعي خالص". فالغير إذن شيبه
ومماثل للأنا، باعتباره كائنا إمبريقيا مثل الذات، ومن ثم، فإن ميرلوبونتي يميز
بين نوعين من الوجود:
أ- الوجود
في ذاته etre en soi الذي يخص الأشياء.
ب- الوجود لذاته etre pour soi الذي يخص الوعي.
وبالتالي،
فإن وجود الغير هو في نفس الآن" وجود في ذاته" و"وجود من أجل
ذاته". فمن جهة ينتمي إلى عالم الأشياء، باعتباره وجودا في ذاته، أي مجرد موضوع،
ومن جهة أخرى فهو وعي باعتباره وعيا وذاتا، أي وجود من أجل ذاته.
تركيب
للمحور:
نخلص
إذن إلى أن مسألة وجود الغير" شكلت إشكالية فلسفية في الفكر الفلسفي الحديث
والمعاصر نتجت عنها أطروحات وتصورات فلسفية متناقضة تجعل وجود الغير بؤرة
للمفارقات. فهو من جهة مجرد موضوع أو شيء (جسد) قابل للدراسة والتحليل، باعتباره
وجودا في ذاته، ومن جهة أخرى فهو ذات أو أنا تتميز بالوعي باعتباره وجودا من أجل
ذاته. كما أن وجود الغير قد يشكل نفيا للذات وإثباتا لها في نفس الكن، مادام يسبب
في توليد الخجل بالنسبة للذات، ويحد من حريتها وتلقائيتها، وفي نفس الآن هو شرط
وجود الأنا، مادام يمكن هذا الأخير من إثبات ذاته وتحقيق وجوده. فإذا كان الغير
موجودا، فهل يمكن معرفته؟ وكيف تتم هذه المعرفة؟