random

آخر المشاركات

random
جاري التحميل ...

تحليل ومناقشة نص فلسفي - معرفة الغير -


تحليل ومناقشة نص فلسفي

- معرفة الغير -

النص
   " نحن لا نتمسك في الغير بأفضل من مظهر جزئي مرتبط بالاختبار، فالغير دائما أكثر مما نعلمه عنه، والغير هو دائما أكثر مما هو باد من كيانه. وكل تدبير أو قياس نعتمده لا يعين على معرفته إلا جزئيا. ونحن نعلم، بفضل البنية، أن جزءا لا يفسر، قطعا، الكل، ونحن نعلم أيضا أن الجزء يتخذ وظيفة تختلف تبعا للكل الذي هو داخل في بنيته. إذن، كل معرفة بالغير تقتضي: أن تبقى مفتوحة لكل جديد، وأن يتم اعتبارها مؤقتة. ولهذا فإننا نأخذ باعتبار بنية الغير مؤقتة تاركينا معرفتنا الجاهزة للتغيرات الممكن حدوثها بسبب التطورات الخاصة بالغير. (...) وهكذا يجب الاعتراف بأننا نشتغل في المشكوك فيه، وفي المتوقع أو المرجح، أو بتعبير أدق في مواجهة الممكنات التي تنسب إليها ترجيحاتنا. وهذا هو نصيب الإنسانية المتجسدة. كل حقيقة عملية هي ترجيح، إذ يمكن أن تتغير، ويجب أن ننتظر تغيرها. وفي انتظار ذلك، لنعمل بما هو أحسن معتمدين ما عندنا من المعارف، ولكن، مالي أقول انتظار؟! لنقل: أخذين في بحث أفضل، ومستعدين دائما أن نغير رأينا وما عندنا من معلومات. "فالمجانين هم وحدهم لا يغيرون" هذا ما تقوله حكمة الأمم". 

الفهم
   إن وجود الأنا والغير ضمن سياق مشترك، فرض عليهما الدخول في علاقات تفاعلية مباشرة تضفي على الوضع البشري دينامية خاصة ومتميزة، تأخذ طابعا إشكاليا، خصوصا عندما يتعلق الأمر بمحاولة كل طرف معرفة الطرف الآخر. وإذا كانت كل معرفة، بشكل عام، تقتضي ثنائية الذات والموضوع كشرط للتحقق، فإنه عندما يتعلق الأمر بالغير يكون الأمر أكثر تعقيدا، إن ذلك هو يحاول النص معالجته، فهو يتأطر ضمن المجال النظري والإشكالي لمجزوءة الوضع البشري بما تحيل عليه من محددات وأبعاد تحد الإنسان في مختلف مستويات الوجود، ويتناول مفهوم الغير، هذا الأخير الذي يعني الأنا الذي ليس أنا، محاولا الوقوف عند مسألة معرفة الغير، إذ يثير إشكالا هو كالتالي: هل معرفة الغير ممكنة أم مستحيلة؟ وإذا كانت معرفة الغير ممكنة فما الآلية التي نعتمدها؟ وإذا كانت مستحيلة فما عوائقها؟ وهل يمكن أن تكون البنية المركبة للغير عائقا أمام معرفته أم أن هذه البنية هي شرط حصول المعرفة؟. 

التحليل
   تعتبر قضية معرفة الغير من أعقد القضايا في ما يتعلق بمفهوم الغير، وقد برزت هذه الفكرة إلى حد ما في أطروحة صاحب النص، فهو يرى أن المعرفة الكلية والدائمة للغير مستحيلة، لأن الغير بنية كلية ومركبة خاضعة للعديد من التغيرات والتحولات على مستويات عدة. وقد عمل صاحب النص على عرض هذه الأطروحة من خلال جملة من الأفكار والقضايا المترابطة، حيث انطلق من اعتبار المعرفة التي نکونها عن الغير هي معرفة جزئية مصدرها البعد القابل للإدراك في بنية الغير، أي أن ما ليس باد على كيانه لا يمكن معرفته وبذلك تكون معرفتنا بالغير معرفة جزئية، إذ أن الغير هو أكثر من ذلك، إنه بنية مركبة متعددة الأبعاد والوظائف وبالتالي فإن معرفة بالجزء أو وظيفة الجزء، لا تعني معرفة بالكل. إضافة إلى ذلك فالمعرفة التي نكونها عن الغير هي معرفة مؤقتة تحتاج إلى التحيين الدائم والمستمر، نظرا لطبيعة التغيرات التي تطرأ على بنية الغير مما يجعل هذه المعرفة نسبية أكثر منها يقينية.
  وقد اعتمد صاحب النص في بناء أطروحته على مجموعة من المفاهيم، أهمها مفهوم الغير، باعتباره بنية مركبة خاضعة للعديد من التغيرات؛ كما اعتمد مجموعة من التقابلات المفاهيمية ليبرز العلاقة المعرفية بين الأنا والغير؛ فهذه البنية التي هي " الغير" تتضمن جزءا قابل للإدراك، وكلا غير قابل لذلك. وهذه البنية التي هي "الغير" متغيرة أكثر منها ثابتة مما يضفي على المعرفة طابع النسبية والشك بدل الإطلاقية واليقين. ولأجل الدفاع عن هذه الأطروحة اعتمد صاحب النص بنية حجاجية منطقية وظف فيها القياس والذي يتبين من خلال قوله: إذا كنا لا نستطيع إلا إدراك جزء من بنية الغير، ونحن نعلم أن الجزء الا يفسر أبدا الكل، نستنتج إذن أن معرفة الغير أمر مستحيل، فهو يحاول من خلال هذا القول إقامة برهان عقلي ومنطقي لتحديد طبيعة وحدود العلاقة المعرفية بين الأنا والغير، كما اعتمد أسلوب السلطة حين استشهد بحكمة أممية " المجانين وحدهم لا يغيرون" محاولا بذلك دعوة الذات إلى التحيين والتغيير المستمر في طبيعة المعرف التي تكونها عن الغير لأن هذا الأخير في تغير مستمر. 

المناقشة
   إن لكل موقف فلسفي قيمة فكرية وفلسفية، فقيمة الموقف المعبر عنه في النص، تكمن في تأكيده على طبيعة البنية المركبة للإنسان عوض النظرة التجزيئية، والتي تخضع للعديد من التغيرات النفسية والاجتماعية والثقافية والبيولوجية، التي نكون سببا في عدم معرفة الغير، مما يستدعي تجاوز الأحكام النمطية والمسبقة عن الغير والعمل بشكل مستمر على تحيين المعارف حول الغير باستمرار مادام هذا الأخير دائم التحول والتغير. لكن، أكيد أن هناك إمكانية للمعرفة إذا ما حاولنا النظر إلى الغير لا كبنية مجزأة وإنما كبنية مركبة. 
   إن الموقف المعبر عنه في النص نجد له حضورا عند الفيلسوف مالبرنش، فهذا الأخير يرى أن، معرفة الغير إنما هي معرفة صعبة إن لم نقل مستحيلة، فهي معرفة قائمة على التخمين والافتراض ولا وجود لليقين فيها، وإذا تمكنت الذات من معرفة الغير فهي لن تعرف سوى ما ظهر منه أما غير الظاهر فلا سبيل للنفاذ إليه. إضافة إلى ما سبق ولأجل الكشف عن جوانب أخرى في معالجتنا للإشكال نستحضر موقف الفيلسوف "ماکس شیلر"، الذي يعتقد أن معرفة الغير ممكنة، شريطة النظر إليه بوصفه كلا لا يقبل القسمة، فالبنية المعرفية للغير حسب "ماکس شیلر" هي بنية مركبة، فمنها مظهر نفسي داخلي يحمل الحالات الشعورية مثل الخجل، الألم، الفرح ...، ومنها مظهر جسدي خارجي يحمل الحالات التعبيرية الظاهرة مثل احمرار الوجه، الدموع، الابتسامة ...، وهذين المظهرين متداخلين إلى درجة التماهي والذوبان، حيث لا يمكن تمييز التعبير الخارجي عن الحالة النفسية المرتبطة به، كما لا يمكن فصل الحالة النفسية عن التعبير الجسدي الذي يعكسها. من هنا تكون معرفة الغير ممكنة. وغير بعيد على هذا الطرح يستوقفنا رأي ميرلوبونتي الذي يرى أن معرفة الغير ممكنة عن طريق التواصل معه، فبمجرد النطق ولو بكلمة واحدة حتى ينكشف الغير أمامي. أما إذا ظل كل من الذات والغير في عزلة فأكيد أن معرفة بعضهما البعض لن تتحصل. 

التركيب 
   من خلال تحليلنا ومناقشتنا لهذا النص نستخلص أن معرفة الغير مسألة إشكالية، لأنها قضية إنسانية وجودية محضة، وقد تبين ذلك من خلال ما أثارته من مواقف وآراء مختلفة، فهناك من أقر بالمعيقات التي تطرحها محاولة معرفة الغير، وكيف أن هذه المعرفة جزئية ومؤقتة تستدعي التحيين المستمر، وذلك ما ذهب إليه صاحب النص ومن معه. وفي المقابل هناك من صرح بإمكانية معرفة الغير شريطة النظر إليه كوحدة كلية لا تقبل القسمة، وذلك رأي ماکس شیلر، أو بالتواصل معه وهو ما اعتقده ميرلوبونتي. لكنني أعتقد أنه من غير المنطقي الانحياز إلى موقف على حساب الأخر، ذلك أن لكل فيلسوف وجة نظره الخاصة والتي يعززها ببنية من الأفكار والمفاهيم والحجج، لذلك يمكننا اعتماد الموقفين ما دامت الذات الإنسانية مركبة ومعقدة تحتمل كل من المعرفة وعدمها. 

عن الكاتب

متوكيل محمد

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

التكامل/ ATTAKAMOL