المحور الأول: وجود الغير
طرح إشكالي:
بعد انبثاق الوعي واكتمال نضجه لدى الذات، يتشكل لديها وعي آخر وهو "الوعي بالآخر" ؛ إذ تدرك أن العالم ليس مسرحا لها وحدها، وإنما هو وجود تتواجد فيه ذوات غيرها، تحمل نفس همومها واهتماماتها ، لكن هذا «التواجد المشترك»، يخفي في عمقه ألغازا عديدة تجعل كليهما يحتاط في الانفتاح على الآخر، فهل وجود الغير ضروري لوجود الذات أم أنها في غنى عنه؟
معالجة الأشكال:
تحليل موقف "جون بول سارتر"
إن وجود الغير ضروري الوجود الأنا، بالنسبة ل"سارتر"، مادام الغير هو الوسيط الضروري الذي من خلاله تثبت الذات وجودها في العالم وتعي ذاتها، لأن حرية الذات رهينة بوجود الغير الذي يحاول تشييئها واستلابها من خلال نظرته إليها. ومن ثم، فإن الحرية ليست معطاة، بل تكتسبها الذات عبر تعاليها على وضعية العبودية التي يفرضها وجود الغير. إن الغير ليس موضوعا، بل ذات تتميز بكل مقومات الإنسانية. إنه شبيه ومماثل للأنا. لكن كل منهما يريد تشييء الآخر والنظر إليه كموضوع قابل للدراسة والتحليل. وهذا ما يذهب إليه الفيلسوف في كتابه الشهير "الوجود والعدم"، حيث يعتبر نظرة الغير إلى الأنا تجعل هذا الأخير يفقد حريته وتلقائيته، إذ يقول في هذا السياق : " الجحيم هم الآخرون ". ويقول أيضا: " إن كوني مرئيا من طرف الغير يشكلني بوصفي موجودا بدون دفاع عن حرية ليست هي حريتي". ورغم ما تعانيه الذات من وضعية استلاب وعبودية أمام الغير، فإن وجوده شرط ضروري لوجود الذات. ويقدم في هذا السياق مثال " الخجل" الذي هو حالة شعورية إزاء شيء ما الذي هو الذات. وبالتالي، فإن الخجل يحقق علاقة باطنية بين الأنا والأنا ذاته، إنه إذن مظهر من مظاهر وجودي. ومع ذلك، فإن الخجل ليس ظاهرة تأملية ذاتية فحسب، بل إنه خجل أمام ذات أخرى أو أنا آخر، مادام هذا الأخير هو الوسيط الذي لا يمكن اللذات أن تحقق وجودها وأن تبقي نفسها في غنى عنه، ولذلك يقول سارتر: " أنا خجول من نفسي بقدر ما أتبدى للغير" ومن ثم، فإن الخجل خجل من الذات أمام الغير.
مناقشة:
موقف "مارتن هايدغر":
لكن من زاية أخرى فالغير بالنسبة ل"هايدغر" تهديد للذات ونفي لها، مادام الوجود مع الغير في الحياة اليومية المشتركة يفرغ الذات ويفقدها خصوصيتها وتميزها، ومن تم يفقد الشخص هويته ووجوده الأصلي، لأن وجود الإنسان بما هو إنسان يوجد تحت رحمة الغير، وليس له وجود مستقل، باعتباره شبيها ومماثلا لجميع الناس وكأنه لا أحد. فالوجود مع الآخرين من الناس يؤدي إلى اختفاء وذوبان الفرد في حياة الجماعة، بل أكثر من ذلك أن وجود الذات مع الغير يقوي من سلطة وهيمنة هذا الأخير. لذلك، يمكن القول، إن الوجود مع الغير في الحياة اليومي يهدد الموجود ويفقده خصوصيته وكينونته. إذن الذات هي بمفردها القادرة على معرفة معنی وجودها، ومن ثم معنى الوجود ككل.